الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الخِطط المقريزية المسمى بـ «المواعظ والاعتبار بذكر الخِطط والآثار» **
قال ابن عبد الحكم: أوّل من قاس النيل بمصر يوسف عليه السلام وضع مقياسًا بمنف ثم وضعت العجوز. دلوكة ابنة زبا وهي صاحبة حائط العجوز مقياسًا بأنصنا. وهو صغير الذرع ومقياسًا بحلوان ووضع عبد العزيز بن مروان مقياسًا بحلوان وهو صغير ووضع أسامة جم زيد التنوخيّ في خلافة الوليد مقياسًا بالجزيرة وهو أكبرها. قال يحيى بن بكير: أدركت القياس يقيس في مقياس منف ويدخل بزيادته إلى الفسطاط. وقال القضاعيّ: كان أوّل من قاس النيل بمصر يوسف عليه السلام وبنى مقياسًا بمنف وهو أوّل مقياس وضعه عليه السلام. وقيل: إن المنهل كان يقاس بمصر بأرض علوة إلى أن بنى مقياس وأن القبط كانت تقيس عليه إلى أن بطل ومن بعده دلوكة العجوز بنت مقياسًا بانصنا وهو صغير الذرع وآخر بأخميم وهي التي بنت الحائط المحيط بمصر. وقيل: إنهم كانوا يقيسون الماء قبل أن يوضع المقياس بالرصاصة فلم يزل المقياس فيما مضى قبل الفتح بقيسارية الأكسية ومعالمه هناك إلى أن ابتنى المسلمون بين الحصن والبحر أبنيتهم الباقية الآن.وكان للروم أيضًا مقياس بالقصر خلف الباب يمنة من دخل منه في داخل الزقاق أثره قائم إلى اليوم وقد بني عليه وحواليه. ثم بنى عمرو بن العاص عند فتحه مصر مقياسًا بأسوان ثم بنى بموضع يقال له: دندرة ثم بنى في أيام معاوية مقياس بانصنا فلم يزل يقاس عليه إلى أن بنى عبد العزيز بن مروان مقياسًا بحلوان وكانت منزله وكان هذا المقياس صغير الذرع. فأمّا المقياس القديم الذي بنى في الجزيرة فالذي وضعه أسامة بن زيد. وقيل: إنه كسر فيه ألفي أوقية وهو الذي بنى بيت المال بمصر. ثم كتب أسامة بن زيد التنوخيّ عامل خراج مصر لسليمان بن عبد الملك ببطلانه فكتب إليه سليمان بأن يبني مقياسًا في الجزيرة فبناه في سنة سبع وتسعين ثم بنى المتوكل فيها مقياسا في أوّل سنة سبع وأربعين ومائتين في ولاية يزيد بن عبد الله التركيّ على مصر. وهو المقياس الكبير المعروف بالجديد وأمر بأن يعزل النصارى عن قياسه فجعل يزيد بن عبد اللّه التركيّ على المقياس أبا الردّاد المعلم واسمه: عبد اللّه بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي الردّاد المؤذن. كان يقول القميّ: أصله بالبصرة قدم مصر وحدث بها وجعل على قياس النيل وأجرى عليه سليمان بن وهب صاحب خراج مصر يومئذٍ سبعة دنانير في كل شهر فلم يزل المقياس من ذلك الوقت في يد أبي الردّاد وولده إلى اليوم وتوفي أبو الردّاد سنة ست وستين ومائتين. ثم ركب أحمد بن طولون سنة تسع وخمسين ومائتين ومعه أبو أيوب صاحب خراجه وبكار بن قتيبة القاضي فنظر إلى المقياس وأمر بإصلاحه وقدّر له ألف دينار فعمرو بني الحارث في الصناعة مقياسًا وأثره باق لا يعتمد عليه. وقال ابن عبد الحكم: ولما فتح عمرو بن العاص مصر أتى أهلها إلى عمرو حين دخل بؤنة من أشهر العجم فقالوا له: أيها الأمير إن لنيلنا هذا سنة لا يجري إلا بها. فقال لهم: وما ذاك قالوا: إنه إذا كان لثنتي عشرة ليلة تخلو من هذا الشهر عمدنا إلى جارية بكر من أبويها فأرضينا أبويها وجعلنا عليها من الحليّ والثياب أفضل ما يكون ثم ألقيناها في النيل. فقال لهم عمر: وإن هذا لا يكون في الإسلام وإن الإسلام يهدم ما كان قبله فأقاموا بؤنة وأبيب ومسرى وهو لا يجري قليلًا ولا كثيرًا حتى هموا بالجلاء فلما رأى عمرو ذلك كتب إلى عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه بذلك فكتب إليه عمر: أن قد أصبت أن الإسلام يهدم ما كان قبله وقد بعثت إليك ببطاقة فألقها في داخل النيل إذا أتاك كتابي. فلما قدم الكتاب إلى عمرو فتح البطاقة فإذا فيها: من عبد اللّه أمير المؤمنين إلى نيل مصر أما بعد: فإن كنت تجري من قبلك فلا تجر وإن كان اللّه الواحد القهار هو الذي يجريك فنسأل اللّه الواحد القهار أن يجريك. فألقى عمرو البطاقة في النيل قبل يوم الصليب بيوم وقد تهيأ أهل مصر للجلاء والخروج منها لأنه لا يقوم بمصلحتهم فيها إلا النيل وأصبحوا يوم الصليب وقد أجراه اللّه تعالى ستة عشر ذراعًا في ليله وقطع تلك السنة السوء عن أهل مصر. وذكر بعضهم: أن جاحلًا الصدفيّ هو الذي جاء ببطاقة عمر رضي اللّه عنه إلى النيل حين توقف فجرى بإذن اللّه تعالى. وقال يزيد بن أبي حبيب: أن موسى عليه السلام دعا على آل فرعون فحبس اللّه عنهم النيل حتى أرادوا الجلاء فطلبوا إلى موسى أن يدعو اللّه فدعا الله رجاء أن يؤمنوا وذلك ليلة الصليب فأصبحوا وقد أجراه اللّه في تلك الساعة ستة عشر ذراعًا فاستجاب اللّه بطوله لعمر بن الخطاب كما استجاب لنبيه موسى عليه السلام. قال القضاعي: ووجدت في رسالة منسوبة إلى الحسن بن محمد بن عبد المنعم قال: لما فتحت العرب مصر عرف عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه: ما يلقي أهلها من الغلاء عند وقوف النيل عن حده في مقياس لهم فضلًا عن تقاصره وإن فرط الاستشعار يدعوهم إلى الاحتكار وأن الاحتكار يدعو إلى تصاعد الأسعار بغير قحط فكتب عمر إلى عمرو يسأله عن شرح الحال فأجابه: إني وجدت ما تروي به مصر حتى لا يقحط أهلها أربعة عشر ذراعًا والحدّ الذي يُروى منه سائرها حتى يفضل عن حاجتهم ويبقى عندهم قوت سنة أخرى ستة عشر ذراعًا والنهايتان المخوفتان في الزيادة والنقصان وهما الظمأ والاستئجار اثنا عشر ذراعًا في النقصان وثمانية عشر ذراعًا في الزيادة هذا والبلد في ذلك الوقت محفور الأنهار معقود الجسور عندما تسلموه من القبط وخميرة العمارة فيه. فاستشار أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه عليًا رضي الله عنه في ذلك فأمره أن يكتب إليه أن يبني مقياسًا وأن ينقص ذراعين من اثني عشر ذراعًا وأن يمرّ ما بعدها على الأصل وأن ينقص من كل ذراع بعد الستة عشر ذراعًا إصبعين ففعل ذلك وبناه بحلوان فاجتمع له بذلك كل ما أراد من حل الإرجاف وزوال ما منه كان يخاف بأن جعل الإثني عشر ذراعًا أربع عشرة لأن كل ذراع أربع وعشرون إصبعًا فجعلها ثمانيًا وعشرين من أوّلها إلى الإثني عشر ذراعًا يكون مبلغ الزيادة على الإثني عشر ثمانيًا وأربعين إصبعًا وهي الذراعان وجعل الأربع عشرة ست عشرة والست عشرة ثماني عشرة والثماني عشرة عشرين. قال القضاعيّ: وفي هذا الحساب نظر في وقتنا لزيادة فساد الأنهار وانتقاض الأحوال وشاهد ذلك: أن المقاييس القديمة الصعيدية من أوّلها إلى آخرها أربع وعشرون إصبعًا كل ذراع والمقاييس الإسلامية على ما ذكر منها المقياس الذي بناه أسامة بن زيد التنوخي بالجزيرة وهو الذي هدمه الماء وبنى المأمون آخر بأسفل الأرض بالبروذات وبنى المتوكل آخر بالجزيرة وهو الذي يقاس عليه الماء الآن وقد تقدّم ذكره. قال ابن عفير عن القبط المتقدّمين إذا كان الماء في اثني عشر يومًا من مسرى اثنتي عشرة ذراعًا فهي سنة ماء وإلا فالماء ناقص وإذا تمّ ست عشرة ذراعًا قبل النوروز فالماء يتم فاعلم ذلك.وقال أبو الصلت: وأما النيل وينبوعه فهو من وراء خط الاستواء من جبل هناك يعرف بجبل القمر فإنه يبتدئ في التزايد في شهر أبيب والمصريون يقولون: إذا دخل أبيب كان للماء لحبيب وعند ابتدائه في التزايد يتغير جميع كيفياته ويفسد. والسبب في ذلك مروره بنقائع مياه آجنة يخالطها فيجتلبها معه إلى غير ذلك مما يحتمله فإذا بلغ الماء خمسة عشر ذراعًا وزاد من السادس عشر إصبعًا واحدًا كسر الخليج ولكسره يوم معدود ومقام مشهود ومجتمع خاص يحضره العام والخاص فإذا كسر فتحت الترع وهي فوهات الخلجان ففاض الماء وساح وغمر القيعان والبطاح وانضم الناس إلى أعالي مساكنهم من الضياع والمنازل وهي على آكام وربا لا ينتهي الماء إليها ولا يتسلط السيل عليها فتعود أرض مصر بأسرها عند ذلك بحرًا غامرًا لما بين جبليها ريثما يبلغ الحدّ المحدود في مشيئة الله عز وجل له وأكثر ذلك يحوم حول ثماني عشرة ذراعًا ثم يأخذ عائدًا في صبه إلى مجرى النيل ومسربه فينضب أوّلًا عما كان من الأرض عاليًا ويصير فيما كان منها متطامنًا فيترك كل قرارة كالمرهم ويغادر كل ملقة كالبرد المسهم. وقال القاضي أبو الحسن عليّ بن محمد الماوردي في كتاب الأحكام السلطانية: وأما الذراع السوداء فهي أطول من ذراع الدور بأصبع وثلثي إصبع وأوّل من وضعها أمير المؤمنين هارون الرشيد قدرها بذراع خادم أسود كان على رأسه قائمًا وهي التي تتعامل الناس بها في ذرع البز والتجارة والأبنية وقياس نيل مصر. وأكثر ما وجد في القياس من النقصان سنة سبع وتسعين ومائة وجد في المقياس تسعة أذرع وأحد وعشرون إصبعا. وأقل ما وجد منه سنة خمس وستين ومائة فإنه وجد فيه ذراع واحد وعشر أصابع وكثر ما بلغ في الزيادة سنة تسع وتسعين ومائة فإنه بلغ ثمانية عشر ذراعًا وتسعة عشر إصبعا وأقل ما كان في سنة ست وخمسين وثلثمائة الهلالية فإنه بلغ اثني عشر ذراعًا وتسع عشرة إصبعًا وهي أيام كافور الإخشيدي. والمقياس عمود رخام أبيض مثمن في موضع ينحصر فيه الماء عند انسيابه إليه وهذا العمود مفصل على اثنين وعشرين ذراعًا كل ذراع مفصل على أربعة وعشرين قسمًا متساوية تعرف وقال المسعوديّ: قالت الهند: زيادة النيل ونقصانه بالسيول ونحن نعرف ذلك بتوالي الأنواء وكثرة الأمطار. وقالت الروم: لم يزد قط ولم ينقص وإنما زيادته ونقصانه من عيون كثرت واتصلت. وقالت القبط: زيادته ونقصانه من عيون في شاطئه يراها من سافر ولحق بأعاليه. وقيل: لم يزد قط وإنما زيادته بريح الشمال إذا كثرت واتصلت تحبسه فيفيض على وجه ا لأرض. وقال قوم: سبب زيادته هبوب ريح تسمى ريح الملتن وذلك أنها تحمل السحاب الماطر من خلف خط الاستواء فيمطر ببلاد السودان والحبشة والنوبة فيأتي مدده إلى أرض مصر بزيادة النيل ومع ذلك فإن البحر الملح يقف ماؤه على وجه النيل فيتوقف حتى يروي البلاد وفي ذلك يقول: فاسمع فللسامع أعلى يدًا عندي وأسمى من يد المحسن فالنيل ذو فضل ولكنه الشكر في ذلك للملتن ويبتدئ النيل بالتنفس والزيادة بقية بؤنة وهو حزيران وأبيب وهو تموز ومسرى وهو آب فإذا كان الماء زائدًا زاد شهر توت كله وهو أيلول إلى انقضائه. فإذا انتهت الزيادة إلى الذراع الثامن عشرة ففيه تمام الخراج وخصب الأرض وهو ضارّ بالبهائم لعدم الرعي والكلا. وأتمّ الزيادات كلها العامّة النفع للبلد كله سبعة عشر ذراعًا وفي ذلك كفايتها وريّ جميع أرضها وإذا زاد على ذلك وبلغ ثمانية عشر ذراعًا وغلقها استبحر من أرض مصر الربع. وفي ذلك ضرر لبعض الضياع لما ذكرنا من الاستبحار وإذا كانت الزيادة على ثمانية عشر ذراعًا كانت العاقبة في انصرافه حدوث وباء وأكثر الزيادات ثمان عشرة ذراعًا. وقد بلغ في خلافة عمر بن عبد العزيز اثني عشر ذراعًا ومساحة الذراع إلى أن يبلغ اثنتي عشرة ذراعًا ثمان وعشرون أصبعًا ومن اثنتي عشرة ذراعًا إلى ما فوق ذلك يكون الذراع أربعًا وعشرين إصبعًا وأقل ما يبقى في قاع المقياس من الماء ثلاثة أذرع وفي تلك السنة يكون الماء قليلًا والأذرع التي يستستقى عليها بمصر هي ذراعان تسميان منكرًا ونكيرًا وهي الذراع الثالث عشر والذراع الرابع عشر فإذا انصرف الماء عن هذين الذراعين وزيادة نصف ذراع من الخمس عشرة استستقى الناس بمصر. فكان الضرر الشامل لكل البلدان وإذا تمّ خمس عشرة ودخل في ست عشرة ذراعًا كان فيه صلاح لبعض الناس ولا يستسقى فيه وكان ذلك نقصًا من خراج السلطان والنبيذ يتخذ بمصر من ماء طوبة وهو كانون الثاني بعد الغطاس وهو لعشرة تمضي من طوبة وأصفى ما يكون ماء النيل في ذلك الوقت وأهل مصر يفتخرون بصفاء ماء النيل في هذا الوقت وفيه يخزن الماء أهل تنيس ودمياط وتونة وسائر قرى وقد كانت مصر كلها تروي من ست عشرة ذراعًا غامرها وعامرها لما أحكموا من جسورها وبناء قناطرها وتنقية خلجانها وكان الماء إذا بلغ في زيادته تسع أذرع دخل خليج المنهي وخليج الفيوم وخليج سردوس وخليج سخا. قال: والمعمول عليه في وقتنا هذا وهو سنة خمس وأربعين وثلثمائة إنه إن زاد على الستة عشر ذراعًا أو نقص عنها نقص من خراج السلطان وقد تغير في زماننا هذا عامة ما تقدّم ذكره لفساد حال الجسور والترع والخلجان وقانون اليوم: أنه يزيد في القيظ إذا حلت الشمس برج السرطان والأسد والسنبلة حين تنقص عامة الأنهار التي في المعمور ولذلك قيل: إن الأنهار تمده بمائها عند غيضها فتكون زيادته وتبتدئ الزيادة من خامس بؤنة وتظهر في ثاني عشره وأول دفعه في الثاني من أبيب وتنتهي زيادته في ثامن بابه ويؤخذ في النقصان من العشرين منه. فتكون مدة زيادته من ابتدائها إلى أن ينقص ثلاثة أشهر وخمسة وعشرين يومًا. وهي: أبيب ومسرى وتوت وعشرون يومًا من بابه ومدّة مكثه بعد انتهاء زيادته اثنا عشر يومًا ثم يأخذ في النقصان. ومن العادة أن يُنادى عليه دائمًا في اليوم السابع والعشرين من بؤنة بعدما يؤخذ قاعه وهو ما بقي من الماء القديم في ثالث عشر بؤنة وبفتح الخليج الكبير إذا أكمل الماء ستة عشر ذراعًا وأدركت الناس يقولون: نعوذ باللّه من إصبع من عشرين وكنا نعهد الماء إذا بلغ أصابع من عشرين ذراعًا فاض ماء النيل وغرّق الضياع والبساتين وفارت البلاليع وها نحن في زمن منذ كانت الحوادث بعد سنة ست وثمانمائة إذا بلغ الماء في سنة إصبعًا من عشرين لا يعم الأرض كلها لما قد فسد من الجسور وكان إلى ما بعد الخمسمائة من الهجرة قانون النيل ستة عشر ذراعًا في مقياس الجزيرة وهي في الحقيقة ثمانية عشر ذراعًا وكانوا يقولون: إذا زاد على ذلك ذراعًا واحدة زاد خراج مصر مائة ألف دينار لما يروي من الأراضي العالية فإن بلغ ثمانية عشر ذراعًا كانت الغاية القصوى فإن الثمانية عشر ذراعًا في مقياس الجزيرة اثنان وعشرون ذراعًا في الصعيد الأعلى فإن زاد على الثمانية عشر ذراعًا واحدًا نقص من الخراج مائة ألف دينار لما يستبحر من الأرض المنخفضة. قال ابن ميسر في حوادث سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة وفيها بلغت زيادة ماء النيل تسعة عشر ذراعًا وأربعة أصابع وبلغ الماء الباب الجديد أوّل الشارع خارج القاهرة وكان الناس يتوجهون إلى القاهرة من مصر من ناحية المقابر فلما بلغ الخليفة الحافظ لدين اللّه أبا الميمون عبد المجيد بن محمد أن الماء وصل إلى الباب الجديد أظهر الحزن والانقطاع فدخل إليه بعض خواصه وسأله عن السبب فأخرج له كتابًا فإذا فيه: إذا وصل الماء بالباب الجديد انتقل الإمام عبد المجيد ثم قال: هذا الكتاب الذي تعلم منه أحوالنا وأحوال دولتنا وما يأتي بعدها فمرض الحافظ في آخر هذه السنة ومات في أوّل سنة أربع وأربعين وخمسمائة. وقال القاضي الفاضل: في متجددات سنة ست وسبعين وخمسمائة وفي يوم الاثنين السادس والعشرين من شهر ربيع الأوّل وهو السادس عشر من مسرى. وفي النيل على ستة عشر ذراعًا وهو الوفاء ولا يعرف وفاؤه بهذا التاريخ في زمن متقدّم وهذا أيضًا مما تغير فيه قانون النيل في زماننا فإنه صار يوفي في أوائل مسرى ولقد كان الوفاء في سنة اثنتي عشرة وثمانمائة في اليوم التاسع والعشرين من أبيب قبل مسرى بيوم وهذا من أعجب ما يؤرخ في زيادات النيل واتفق أن في الحادي عشر من جمادى الأولى سنة تسع وسبعمائة وفي النيل وكان ذلك اليوم التاسع عشر من بابه بعد النوروز بتسعة وأربعين يومًا. قال: وفي تاسع عشرة يعني شوال سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة. كسر بحر أبي المنجى وباشر الملك العزيز عثمان كسره وزاد النيل فيه إصبعًا وهي الأصبع الثامنة عشرة من ثمان عشرة ذراعًا وهذا الحدّ يسمى عند أهل مصر اللجة الكبرى. فانظر كيف يسمي القاضي الفاضل هذا القمر اللجة الكبرى وإنه والعياذ بالله لو بلغ ماء النيل في سنة هذا القمر فقط لحل بالبلاد غلاء يخاف منه أن يهلك فيه الناس وما ذاك إلا لما أهمل من عمل الجسورة ويحصل لأهل مصر بوفاء النيل ست عشرة ذراعًا فرح عظيم فإن ذلك كان قانون الري في القديم واستمرّ ذلك إلى يومنا هذا. ويتخذ ذلك البوم عيدًا يركب فيه السلطان بعساكره وينزل في المراكب لتخليق المقياس. وقد ذكرنا ما كان في الدولة الفاطمية من الاهتمام بفتح الخليج عند ذكر مناظر اللؤلؤة. وقال بعض المفسرين رحمهم الله تعالى: إن يوم الوفا هو اليوم الذي وعد فرعون موسى عليه السلام بالاجتماع في قوله تعالى: " قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى " طه 59. وقد جرت العادة أن اجتماع الناس للتخليق يكون في هذا الوقت. ما حكاه الفقيه ابن زولاق في سيرة المعز لدين الله قال: وفي هذا الشهر يعني شوّال سنة اثنتين وستين وثلثمائة منع المعز لدين الله من النداء بزيادة النيل وأن لا يكتب بذلك إلا إليه وإلى القائد جوهر فلما تم أباح النداء يعني لما تم ست عشرة ذراعًا وكسر الخليج فتأمّل ما أبدع هذه السياسة فإن الناس دائمًا إذا توقف النيل في أيام زيادته أو زاد قليلًا يقلقون ويحدّثون أنفسهم بعدم طلوع النيل فيقبضون أيديهم على الغلال ويمتنعون من بيعها رجاء ارتفاع السعر ويجتهد من عنده مال في خزن الغلة إما لطلب السعر أو لطلب ادّخار قوت عياله فيحدث بهذا الغلاء. فإن زاد الماء انحلّ السعر وإلا كان الجدب والقحط ففي وقال المسبحي في تاريخ مصر: وخرج أمر صاحب القصر إلى ابن حيران بتحرير ما يستفتح به القياسون كلامهم إذا نادوا على النيل فقال: نعم لا تحصى من خزائن اللّه لا تفنى زاد اللّه في النيل المبارك كذا ومن عادة نيل مصر إذا كان عند ابتداء زيادته اخضرّ ماؤه فتقول عامّة أهل مصر: قد توحم النيل ويرون أن الشرب منه حينئذِ مضر. ويقال في سبب اخضراره: إنّ الوحوش سيما الفيلة ترد البطيحات التي في أعالي النيل وتستنقع فيها مع كثرة عددها لشدّة الحرّ هناك فيتغير ماء تلك البطيحات فإذا وقع المطر في الجهة الجنوبية في أوقاته عندهم تكاثرت السيول حينئذ في البطيحات فخرج ما كان فيها من الماء الذي قد تغير ومرّ إلى مصر وجاء عقيبه الماء الجديد وهو الزيادة بمصر وحينئذ يكون الماء محمرًّا لما يخالطه من الطين الذي تأتي به السيول فإذا تناهت زيادته غشي أرض مصر فتصير القرى التي في الأقاليم فوق التلال والروابي وقد أحاط بها الماء فلا يتوصل إليها إلا في المراكب أو من فوق الجسور الممتدّة التي يصرف عليها إذا عملت كما ينبغي ربع الخراج ليحفظ عند ذلك ماء النيل حتى ينتهي ريّ كل مكان إلى الحدّ المحتاج إليه فإذا تكامل ريّ ناحية من النواحي قطع أهلها الجسور المحيطة بها من أمكنة معروفة عند خولة البلاد ومشايخها في أوقات محدودة لا تتقدّم ولا تتأخر عن أوقاتها المعتادة على حسب ما يشهد به قوانين كل ناحية من النواحي فتروى كل جهة مما يليها مع ما يجتمع فيها من الماء المختص ولولا إتقان ما هنالك من الجسور وحفر الترع والخلجان لقل الانتفاع بماء النيل كما قد جرى في زماننا هذا. وقد حكى أنه كان يرصد لعمارة جسور أراضي مصر في كل سنة ثلث الخراج لعنايتهم في القديم بها من أجل أنه يترتب على عملها ريّ البلاد الذي به مصالح العباد وستقف إن شاء الله تعالى عن قريب على ما كان من أعمال القدماء ومن بعدهم في ذلك وكان للمقياس في الدولة الفاطمية رسوم لكنس مجاري الماء خمسون دينارًا في كل سنة تطلق لابن أبي الرداد ذكر الجسر الذي كان يعبر عليه في النيل اعلم أنه كان في النيل جسر من سفن فيما بين الفسطاط والجزيرة التي تعرف اليوم: بالروضة وكان فيما بين الجزيرة والجيزة أيضًا جسر في كل جسر منهما ثلاثون سفينة. قال الرئيس أبو عليّ ابن سينا عفا الله عنه وقوم يفرطون في مدح النيل إفراطًا شديدًا ويجمعون محامده في أربعة: بعد منبعه وطيب مسلكه وغمورته وأخذه إلى الشمال عن الجنوب. فأخذه إلى الشمال عن الجنوب: ملطف لما يجري فيه من المياه وأما غمورته فيشاركه فيها غيره. قال: فأفضل المياه مياه العيون ولا كل العيون ولكن مياه العيون الحرّة الأرض التي لا يغلب على تربتها شيء من الأحوال والكيفيات الغريبة أو تكون حجرية فتكون أولى بأن لا تعفن عفونة الأرضية لكن التي هي من طينة حرّة خير من الحجرية ولا كل عين حرة بل التي هي مع ذلك جارية ولا كل جارية بل الجارية المكشوفة للشمس والرياح وإنّ هذا مما يكسب الجارية فضيلة. وأما الراكدة فربما اكتسبت بالكشف رداءة لا تكسبها بالغور والستر. واعلم أنّ المياه التي تكون طيبة المسيل خير من التي تجري على الأحجار فإن الطين ينقي الماء ويأخذ منه الممزوجات الغريبة ويروّقه والحجارة لا تفعل ذلك. لكنه يجب أن يكون طين مسيله حرًا لا حمأة ولا سبخة ولا غير ذلك. فإن اتفق أن كان هذا الماء غمرًا شديد الجرية يحيل بكثرة ما يخالطه إلى طبيعته. فإن كان يأخذ إلى الشمس في جريانه فيجري إلى المشرق وخصوصًا إلى الصيفيّ منه فهو أفضل لا سيّما إذا بعد جدًا من ميدانه ثم ما يتوجه إلى الشمال والمتوجه إلى المغرب والجنوب رديء خصوصًا عند هبوب ريح الجنوب والذي ينحدر من مواضع عالية مع سائر الفضل أفضل وما كان بهذه الصفة كان عذبًا يخيل إنه حلو ولا يحتمل الخمر إذا مزج به منه إلا قليلًا وكان خفيف الوزن سريع البرد والتسخين لتخلخله باردًا في الشتاء حارًا في الصيف لا يغلب عليه طعم ألبتة ولا رائحة ويكون سريع الانحدار من الشراسيف سريعًا لهري ما يهري فيه وطبخ ما يطبخ فيه. قال الرئيس علاء الدين عليّ بن أبي الحرم بن نفيس في شرح القانون: هذه المحامد التي ذكرها ليست علامات للحمد بل هي من الأشياء الموجبة لكونه محمودًا وأحد هذه الأربعة بعد منبعه وقد بينا أنّ ذلك يوجب لطافة الماء بسبب كثرة حركته واعلم أن منبع النيل من جبل يقال له جبل القمر وهذا الجبل وراء خط الاستواء بإحدى عشرة درجة وثلاثين دقيقة فماؤه أعظم دائرة في الأرض بثلاثمائة درجة وستين وابتداء هذا الجبل من السادسة والأربعين درجة وثلاثين دقيقة من أوّل العمارة من جهة المغرب وآخره عند آخر إحدى وستين درجة وخمسين دقيقة فيكون امتداد هذا الجبل مقدار خمس عشرة درجة وعشرين دقيقة مما به أعظم دائرة في الأرض ثلثمائة وستون درجة ويخرج من هذا الجبل عشرة أنهار من أعين فيه ترمي كل خمسة منها إلى بحيرة عظيمة مدوّرة وإحدى هاتين البحيرتين مركزها حيث البعد من ابتداء العمارة بالمغرب خمسون درجة والبعد من خط الاستواء في الجنوب سبع درج وإحدى وثلاثون دقيقة ومركز الثانية حيث البعد عن أوّل العمارة بالمغرب سبع وخمسون درجة وحيث البعد من خط الاستواء في الجنوب سبع درج وإحدى وثلاثون دقيقة وهاتان المحيرتان متساويتان وقطر كل واحدة منهما مقدار خمس درج ويخرج من كل واحدة من البحيرتين أربعة أنهار ترمي إلى بحيرة صغيرة مدوّرة في الإقليم الأول بعد مركزها عن أوّل العمارة بالمغرب ثلاث وخمسون درجة وثلاثون دقيقة وعن خط الاستواء من الشمال درجتان من الإقليم الأوّل ومقدار قطرها درجتان ويصب كل واحد من الأنهار الثمانية في بحيرة وفي هذه البحيرة نهر واحد وهو: نيل مصر ويمرّ ببلاد النوبة نهر آخر ابتداؤه من غير مركزها على خط الاستواء كبيرة مستديرة مقدار قطرها ثلاث درج وبعد مركزها من أوّل العمارة بالمغرب: ثلاث وأربعون درجة ويلقي نهر هذه العين لنهر النيل حيث البعد من أوّل العمارة بالمغرب ثلاث وأربعون دقيقة وإذا تعدى النيل مدينة مصر إلى بلد يقال له: شطنوف يفرق هناك إلى نهرين يرميان إلى البحر المالح أحدهما يعرف ببحر رشيد ومنه يكون خليج الإسكندرية وثانيهما يعرف ببحر دمياط وهذا البحر إذا وصل إلى المنصورة تفرع منه نهر يعرف ببحر أشمون يرمي إلى بحيرة هناك. وباقيه يرمي إلى البحر المالح عند دمياط وزيادة النيل هي من أمطار كثيرة ببلاد الحبشة والله أعلم. واعلم أن الوزن من الدستورات المنتخبة من حال الماء فإن الأخف في أكثر الأحوال أفضل فهذا ما ذكره الرئيس ابن سيناء من صفات المياه الفاضلة واعتبر ما قاله تجد ذلك قد اجتمع في ماء النيل. فأوّله أن ماء النيل عين تمرّ على أراضي حرّة ولا يغلب على تربه ما يمرّ به شيء من الأحوال والكيفيات الردية كمعادن النفط والشب والأملاح والكباريت ونحوها بل يمرّ على الأراضي التي تنبت الذهب بدليل ما يظهر في الشطوط من قراضات الذهب وقد عانى جماعة تصويل الذهب من الرمل المأخوذ من شطوط النيل فربحوا منه مالًا وفضيلة كون الذهب في المال لا تنكر. الثاني: أن النيل في جريانه أبدًا مكشوف للشمس والرياح. الثالث: أنّ طينه من طين مسيل مياه مجتمعة من أمطار تمرّ على أراضي حرّة ويظهر لك ذلك الرابع: غمورة ماء النيل وشدة جريته التي تكاد تقصف العمد إذا اعترضتها وتدفع الأثقال العظيمة إذا عارضتها. الخامس: بعد مبدأ خروجه من مصبه في البحر المالح وقد تقدّم من طول مسافته ما لا نجده في نهر غيره من أنهار المعمور. السادس: انحداره من علوّ فإن الجنوب مرتفع عن الشمال لا سيما إذا صار إلى الجنادل انحط من أعلى جبل مرتفع إلى وادي مصر. وذكر ابن قتيبة في كتاب غريب الحديث من حديث جرير بن عبد اللّه البجليّ حين سأله رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن منزله ببلنسة فذكره إِلى أن قال: وماؤنا يمتنع أن يجري من علوّ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " خير الماء السنم " أي ما كان ظاهرًا على وجه الأرض والسنم: الماء على وجه الأرض وكل شيء علا شيئًا فقد تسنمه مأخوذ من سنام البعير لعلوّه. وقال بعض المفسرين في قوله تعالى: " السابع: أنه يمرّ من الجنوب إلى الشمال فتستقبله ريح الشمال الطيبة دائمًا. الثامن: من خفته في الوزن وقد اعتبر ذلك غير مرّة مع غيره من المياه فخف عنها في الوزن. التاسع: عذوبة طعمه وحسن أثره في هضم الغذاء وأحداره عن المعدة بحيث إنه يحدث بعد شربه جشاء وهذه صفات إن كنت ممن مارس العلم الطبيعيّ وعرف الطب فإنه يعظم عندك قدر ماء النيل وتبين لك غزارة نفعه وكثرة محاسنه. ويقال: إنّ ذا القرنين كتب كتابًا فيه ما شاهده من عجائب الدنيا فضمنه كل أعجوبة ثم قال في آخره: وليس ذلك بعجب بل العجب نيل مصر وقال بعض الحكماء: لولا ما جعل الله في نيل مصر من حكمة الزيادة في زمن الصيف على التدريج حتى يتكامل ريّ البلاد وهبوط الماء عنها عند بدء الزراعة لفسد إقليم مصر وتعذر سكناه لأنه ليس فيه أمطار كافية ولا عيون جارية تعم أرضه إلا بعض إقليم الفيوم وللّه در القائل: واهًا لهذا النيل أيّ عجيبة بكر بمثل حديثها لا يسمع يلقي الثرى في العام وهو مسلم حتى إذا ما ملّ عاد يودّع مستقبل مثل الهلال فدهره أبدًا يزيد كما يريد ويرجع وقال آخر: كأنّ النيل ذو فهم ولب لما يبدو لعين الناس منه فيأتي حين حاجتهم إليه ويمضي حين يستغنون عنه يوم لنا بالنيل مختصر ولكل يوم مسرّة قصر والسفن تجري كالخيول بنا صعدًا وجيش الماء منحدر وكأنما أمواجه عكن وكأنما داراته سرر وقال أيضًا: أما ترى الرعد بكى واشتكى والبرق قد أومض واستضحكا فاشرب على غيم بصنع الدجى يضحك وجه الأرض لما بكى وانظر لماء النيل في مدّه كأنما صندل أو مصطكا وقال آخر: والله مجرى النيل منه إذا الصبا أرينا به من برها عسكرًا بحرا بشط بنهر السمهرية دبلًا وموج بنهر البيض هندية بترا إذا مرّ حاكى الورد غضًا وإن صفا حكى ماءه لونًا ولو بعده مرّا وقال أبو الحسن محمد بن الوزير في تدريج زيادة النيل وعظم منفعته: أرى أبدًا كثيرًا من قليل وبحرًا في الحقيقة من هلال وقال الشهاب أحمد بن فضل الله العمري: بمصر فضل باهر لعيشها الرغد النضر في سفح روض يلتقي ماء الحياة والخضر وقال ابن قلاقس: انظر إلى الشمس فوق النيل غاربة وانظر لما بعدها من حمرة الشفق غابت وألقت شعاعًا منه يخلفها كأنما احترقت بالماء في الغرق وللهلال فها وافى لينفدها في إثرها زورق قد صيغ من ورق وقال بشر الملك ابن المنجم: يا رب سامية في الجو قمت بها أمدّ طرفي في أرض من الأفق حيث العشية في التمثيل معترك إذا رآها جبان مات للفرق للشمس غاربة للغرب ذاهبة بالنيل مصفرّة من هجمة الغسق وللهلال انعطاف كالسنان بدا من سورة الطعن ملقى في دم الشفق وقال القاضي الفاضل رحمه اللّه تعالى عليه: وأما النيل فقد ملأ البقاع وانتقل من الإصبع ونيل مصر: مخالف في جريه لغالب الأنهار فإنه يجري من الجنوب إلى الشمال وغيره ليس كذلك إلا نهران فإنهما يجريان كما يجري النيل وهما نهر مكران بالسند ونهر الأريط وهو الذي يعرف اليوم بنهر العاصي في حماه إحدى مدائن الشام. وقد عاب ماء النيل قوم. قال أبو بكر ابن وحشية في كتاب الفلاحة النبطية: وأما ماء النيل فمخرجه من جبال وراء بلاد السودان يقال لها جبال القمر وحلاوته وزيادته يدلان على موقعه من الشمس أنها أحرقته لا كل الإحراق بل أسخنته إسخانًا طويلًا لينًا لا تزعجه الحرارة ولا تقوى عليه بحيث تبدّد أجزاءه الرطبة وتبقى أجزاءه الراسخة بل يعتدل عليه فصار ماؤه لذلك حلوًا جدًّا وصار كثرة شربه يعفن البدن ويحدث البثور والدماميل والقروح وصار أهل مصر - الشاربون منه دمويين محتاجين إلى استفراغ الدم عن أبدانهم في كل مدّة قصيرة فمن كان عالمًا منهم بالطبيعة فهو يحسن مداواة نفسه حتى يدفع عن جسمه ضرر ماء النيل وإلا فهو يقع فيما ذكرنا من العفونات وانتشار البثر والدماميل. وذلك أن هذا الماء ناقص البرد عن سائر المياه قد صير له الطبخ قوامًا هو أثخن من قوام الماء فصار إذا خالط الطعام في الأبدان كثر فيها الفضول الردية العفنة فيحدث من ذلك ما ذكرناه. ودواء أهل مصر الذي يدفع عنهم ضرر ماء النيل إدمان شرب ربوب الفاكهة الحامضة القابضة وأخذ الأدوية المستفرغة للفضول ولو زادت حرارة الشمس على ماء النيل وطال طبخها له لصار مالحًا بمنزلة ماء البحار الراكدة التي لا حركة لها إلا وقت جزر البحر وهبوب الرياح وهو أوفق للزروع والمنابت من الحيوان. وقال ابن رضوان: والنيل يمرّ بأمم كثيرة من السودان ثم يصير إلى أرض مصر وقد غسل ما في بلاد السودان من العفونات والأوساخ ويشق مارًا بوسط أرض مصر من الجنوب إلى الشمال إلى أن يصب في بحر الروم. ومبدأ زيادته في فصل الصيف وتنتهي زيادته في فصل الخريف ويرتقي في الجوّ منه في أوقات مدة رطوبات كثيرة بالتحلل الخفيّ فيرطب ذلك يبس الصيف والخريف وإذا مدّ النهر فاض على أرض مصر فغسل ما فيها من الأوساخ نحو جيف الحيوانات وأزبالها وفضول الآجام والنبات ومياه النقاع وأحدر جميع ذلك معه. وخالطه من تراب هذه الأرض وطينها مقدار كثير من أجل سخافتها وباض فيه من السمك الذي تربى فيه وفي مياه النقائع ومن قبل ذلك تراه في أوّل مدة يخضر لونه بكثرة ما يخالطه من مياه النقائع العفنة التي قد اجتمع فيها العرمض والطحلب واخضر لونها من عفنها ثم يتعكر حتى يصير آخر أمره مثل الحمأة وإذا صفا اجتمع منه في الإناء طين كثير ورطوبة لزجة لها سهوكة ورائحة منكرة. وهذا من أوكد الأشياء في ظهور رداءة هذا الماء وعفنه. وقد بيّن بقراط وجالينوس: أنّ أسرع المياه إلى العفن ما لطفته الشمس بمياه الأمطار ومن شأن هذا الماء أن يصل إلى أرض مصر وهو في الغاية من اللطافة من شدة حرارة بلاد السودان فإذا اختلط به عفونات أرض مصر زاد ذلك في استحالته ولذلك يتولد منه من أنواع السمك شيء كثير جدًّا فإن فضول الحيوانات والنبات وعفونة هذا الماء وبيض السمك يصير جميعها موادًّا في تكوّن هذه الأسماك. كما قال أرسطاطالس في كتاب الحيوان: وذلك شيء ظاهر للحس فإن كل شيء يتعفن يتولد من عفونته الحيوان ولهذا صار ما يتولد من الدود والفأر والثعابين والعقارب والزنابير والذباب وغيرها بأرض مصر كثيرًا فقد استبان أن المزاج الغالب على أرض مصر الحرارة والرطوبة الفضلية. وإنها ذات أجزاء كثيرة وإن هواءها وماءها رديان وربما انقطع النيل في آخر الربيع وأوّل الصيف من جهة الفسطاط. فيعفن بكثرة ما يلقي فيه إلى أن يبلغ عفنه إلى أن يصير له رائحة منكرة محسوسة. وظاهر أن هذا الماء إذا صار على هذه الحالة غيَّر مزاج الناس تغيرًا محسوسًا وينبغي أن يستقي ماء النيل من الموضع الذي فيه جريه أشدّ والعفونة فيه أقل ويصفي كل إنسان هذا الماء بحسب ما يوافق مزاجه. أما المحرورون في أيام الصيف فبالطباشير والطين الأرمنيّ والمغرة والنبق المرضوض والزعرور المرضوض والخل. وأما المبرودون في أيام الشتاء فباللوز المرّ داخل نوى المشمش والصعتر والشب. وينبغي أن ينظف ما يروّق ويشرب وإن شئت أن تصفيه بأن تجعله في آنية الخزف والفخار والجلود وما يمصل من ذلك بالرشح وإن شئت طبخته بالنار وجعلته في هواء الليل حتى يروق ثم نظفت منه ما يروق واستعملته. وإذا ظهرت فيه كيفيات رديئات فاطبخه بالنار ثم برّده تحت السماء في برودة الليل وصفه بأخلاط الأدوية التي ذكرتها وأجود ما اتخذ هذا الماء أن يُصفى مرارًا وذلك بأن يسخنه أو يطبخه ثم يبرّده في هواء الليل ويقطف ما يروق منه فتصفيه أيضًا ببعض الأدوية ثم تأخذ ما يروق فتجعله في آنية تمصل في برد الليل وتأخذ الرشح فتشربه واجعل آنية هذا الماء في الصيف الخزف والفخار المعمولين في طوبة والظروف الحجرية والقرب ونحوها مما يبرد. وفي الشتاء الآنية الزجاج والمدهون وما يعمل في الصيف من الفخار والخزف ويكون موضعه في الصيف تحت الأسراب وفي مخاريق ريح الشمال وفي الشتاء بالمواضع الحارة ويبرد في الصيف بأن يخلط معه ماء الورد ويؤخذ خرقة نظيفة ويشدّ فيها طباشير وبزر رجلة أو خشخاش أبيض أو طين أرمني أو مغرة ويلقي فيه كيما يأخذ من بردها ولا يخالطه جسمها وتغسل ظروفه في الصيف بالخزف المدقوق وبدقيق الشعير والباقلاء والصندل. وفي الشتاء بالأشنان والسعد ويبخر بالمصطكى والعود. وأردأ ما يكون ماء النيل بمصر عند فيضه وعند وقوف حركته فعند ذلك ينبغي أن يطبخ ويبالغ في تصفيته بقلوب نوى المشمش وسائر ما يقطع لزوجته. وأجود ما يكون في طوبة عند تكامل البرد ومن أجل هذا عرفت المصريون بالتجربة أن ماء طوبة أجود المياه حتى صار كثير منهم يخزنه في القوارير الزجاج والصينيّ ويشربه السنة كلها ويزعم أنه لا يتغير وصاروا أيضًا لا يصفونه في هذا الزمان لظنهم أنه على غاية الخلاص وأما أنت فلا تسكن إلى ذلك وصفه على أي حالة كان فالماء المخزون لا بدّ أن يتغير فهذا ما عندي من ذم ماء النيل. وحاصله: أن الماء تتغير كيفيته بما يمرّ عليه لا أن ذاته ردية فلا يهولنك ما تسمع فما الأمر إلا ما قلت لك وإذا كان الضرر بحسب ما تغير من كيفيته لا من كميته فقد عرفت ما تعالجه به كي يزول ما يخالطه من الكيفيات الردية والله الموفق بمنه وكرمه.
|